قصتنا لهذا اليوم وقعت إبان الحكم العباسي، وتحديدا في زمن الخليفة
أبو جعفر المنصور، حيث كان هذا الأخير حريصا على أموال الدولة، كما عرفت الخلافة
العباسية بكرمها السخي للشعراء، حيث كانوا يغدقون عليهم أموالا طائلة وهدايا
ثمينة، فلجأ الخليفة أبو جعفر المنصور إلى حيلة ذكية للتحايل على الشعراء، قصد منعهم
من أعطياتهم من الأموال والهدايا لقاء قصائدهم الشعرية، فأصدر بيانا يفيد بأن
القصيدة إن كانت من قول الشاعر جازاه عليها، وإن كانت من منقوله، لم يكن له عنده
شيء، كما أن الجائزة كانت مقابل ما كتبت عليه القصيدة ذهبا.
بعد إصدار البلاغ، تسارع الشعراء إلى قصر الخلافة ليسردوا شعرهم الذي
سهروا على تأليفه وكتابته طوال الليل، لكن المفاجأة الكبرى لم تكن سارة للشعراء،
فعندما ينهي الشاعر إلقاء قصيدته، يتفاجأ بأن الخليفة يحفظها، ويخبره بأنه سمع هذه
الأبيات منذ زمن، فيعيد الخليفة قراءة جميع الأبيات، ثم ينظر للشاعر ويخاطبه،
وهناك غيري يحفظه، ويطلب من الحراس إحضار غلام يعمل بالقصر ثم يسأله، أيها الغلام،
أسمعت بهذه القصيدة، ويقوم الغلام بإتمام ما بدأه الخليفة، وبعد أن ينتهي من
القصيدة، يقول الخليفة وهناك غيرنا يحفظه، ويطلب من الحراس خاصته المناداة على
إحدى الجواري، فيسألها كذلك، هل سمعت بقصيدة مطلعها كذا وكذا، فتقوم هي الأخرى
بإتمام ما بدأه الخليفة العباسي.
هذه الحيلة ساهم في إنجاحها ذكاء وفطنة الخليفة، حيث كان يحفظ القصيدة
بعد سماعها لمرة واحدة فقط، بينما غلامه من مرتان، وجاريته من ثلاث.
ذهل الشعراء بما ابتلوا به، واجتمعوا في أحد الأيام في منتداهم
يناقشون الأمر، فمر عليهم أحد شعراء العرب ويدعى الأصمعي، فسألهم عن حالهم، وماهية
مشكلتهم، فقصوا عليه القصص وما يدور في قصر الخلافة، فأجابهم إن في الأمر لحيلة
ومكر.
في اليوم الموالي، توجه الأصمعي صوب قصر الخلافة، مرتديا ملابس البدو،
بدا وكأنه أعرابي، عند وصوله استأذن الخليفة للدخول، عندها خاطبه قائلا: لدي يا
مولاي قصيدة أود أن ألقيها على مسامعكم، ولا أعتقد أنكم يا أمير المؤمنين قد سمعتم
بها من قبل، سأل الخليفة: أوتعلم الشروط؟ أجاب الأصمعي: نعم مولاي، قال الخليفة:
هات ما عندك.
والآن سأسرد عليكم أبيات القصيدة والتي عنونها الأصمعي بصوت صفير
البلبل.
صـوت صــفير الـبلبـل
هيج قـــلبي الثمــل
المـــــــاء والزهر معا
مــــع زهرِ لحظِ المٌقَل
و أنت يا ســـــــــيدَ لي
وســــــيدي ومولي لي
فكــــــــم فكــــم تيمني
غُـــزَيلٌ عقــــــــــيقَلي
قطَّفتَه من وجــــــــــنَةٍ
من لثم ورد الخــــجل
فـــــــقال لا لا لا لا لا
وقــــــــد غدا مهرول
والخــــود مالت طربا
من فعل هـــذا الرجل
فــــــــولولت وولولت
ولـــــي ولي يا ويل لي
فقلت لا تولولـــــــــي
وبيني اللؤلؤ لــــــــــي
قالت له حين كـــــــذا
انهض وجــــــد بالنقل
وفتية سقــــــــــــونني
قـــــــــهوة كالعسل لي
شممـــــــــــتها بأنافي
أزكـــــــى من القرنفل
في وســط بستان حلي
بالزهر والســـــرور لي
والعـــود دندن دنا لي
والطبل طبطب طب لـي
طب طبطب طب طبطب
طب طبطب طبطب لي
والسقف سق سق سق لي
والرقص قد طاب لي
شـوى شـوى وشــــاهش
على ورق ســـفرجل
وغرد القمري يصـــــيح
ملل فـــــــــــي مللي
ولــــــــــــو تراني راكبا
علــــى حمار أهزل
يمشي علــــــــــــى ثلاثة
كمـــــشية العرنجل
والناس ترجــــــــم جملي
في الســوق بالقلقللي
والكـــــــــل كعكع كعِكَع
خلفي ومـــن حويللي
لكـــــــــــن مشيت هاربا
من خشـــية العقنقل
إلى لقاء مـــــــلك
مـــــــعظم مبجل
يأمر لي بخـــــلعة
حمـــراء كالدم دملي
أجـــــر فيها ماشيا
مبغــــددا للذيل
أنا الأديب الألمــع
من حي أرض الموصل
نظمت قطعاً زخرفت
يعجز عنها الأدبل
أقول في مطلعها
صوت صفير البلبل
عندما انتهى الأصمعي من القصيدة، قفز الخليفة من مكانه، لأنه لم يستطع
حفظ الأبيات لكثرة الأحرف المتكررة التي تضمنتها القصيدة، وقال بعدها والله ما
سمعت بهذا من قبل، ونادى على غلامه فأجابه بأنه لم يسمع بها قط، وأمر بإحضار
الجارية كذلك، فأجابت بأنها لا تحفظه، عم صمت رهيب فسحة القصر، وبعدها طلب الخليفة
من الأعرابي أن يحضر ما كتبت عليه قصيدته لكي توزن ويعطى مقابلها ذهبا.
قال الأصمعي: لقد ورثت عن أبي عمود رخام، لا يحمله إلا أربعة من جنودك
يا مولاي، فأخذ الأصمعي كل ما في الخزنة من ذهب لثقل العمود، عندما هم بالمغادرة،
خاطبه وزير الخليفة قائلا، توقف مكانك وأزل اللثام عن وجهك يا أعرابي، فلما أزال
اللثام، فوجئوا بأنه الأصمعي، فقال الخليفة والدهشة قد علت محياه، أتفعل هذا معي
يا أصمعي؟ أعد المال إلى الخزنة، قال الأصمعي: لا أعيده إلا بشرط يا مولاي، بأن
تعيد للشعراء مكافئاتهم، وافق الخليفة العباسي على ذلك، وأعاد الأصمعي أموال
الدولة.
أرجو أن تنال القصة إعجابكم
الاستماع للقصة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق