قصة اليوم ملهمة جدا ومثيرة، وأحداتها غير متوقعة، تعود تفاصيلها لسجين ألماني، حكم عليه بالسجن المؤبد في ستينيات القرن الماضي.
تروي الحكاية أن السجناء كانوا يعانون من قسوة مفرطة من طرف حراس أحد سجون ألمانيا الشرقية، إبان الحكم الشيوعي في حقبة الستينيات، كانت المعاملة أسوء ما تكون عليه، فلا رياضة ولا ترفيه، كما لا توجد زيارات عائلية، لذا اعتبر السجن في هذه الحقبة بالذات كمقبرة للجميع، وربما للحراس أنفسهم، كانت أسوار السجن بمتابة كابوس رهيب في ظل الظروف الصعبة والمزرية التي يعيشها السجناء، فكان قضاء يوم واحد خلف جدرانه كارتيا فما بالك بمن حكم عليه لسنوات طوال، وعلى خلاف بقية السجناء، كان الأمر مختلفا تماما مع سجين يدعى شميدث، الذي أدرك منذ دخوله المؤسسة السجنية كيف يتعامل مع الحراس، ربما تخفيفا عن نفسه فترة سجنه الطويلة.
حظي المدعو شميدث بمعاملة راقية وامتيازات جيدة من قبل حراس السجن ورؤسائهم، بصورة جعلت الكل يشك في أمره ويتعجب من وضعه الغريب خلافا للمعهود عليه من بقية زملائه الذين ينالهم الضرب والتنكيل، وقد أجمع معظمهم بأن شميدث ربما يكون عميلا ومخبرا سريا، تم زرعه بينهم ليستقصي جميع الأخبار التي تروج بين السجناء، فلم يكن أمامهم أي تبرير منطقي سوى هذا الكلام لتلك المعاملة الخاصة التي يحظى بها دون سواه، في حين كان زميلهم شميدث يقسم لهم مرارا وتكرارا أنه مجرد سجين ولا تربطه أية علاقة أو رابط بحراس السجن أو الأجهزة الأمنية المسؤولة عنهم، ورغم جهوده لاقناع زملائه، إلا أن قسمه لم يشفع له في نفي التهمة عنه.
وتحت ضغط السجناء لمعرفة الحقيقة، وتحت وابل من الأسئلة لكشف المستور حول علاقته بالحراس ونوعية المعاملة الحسنة التي يحظى بها خلافا للآخرين الذين ينالهم نصيب وافر من التعذيب والضرب، فقرر إخبارهم بالتفاصيل .
بعد أن التفوا من حوله، بادرهم بالسؤال: أخبروني ماذا تكتبون في رسائلكم الأسبوعية التي ترسلونها إلى أقاربكم وذويكم؟
قال الجميع: نكتب لهم عن أحوالنا وقسوة الحراس معنا، وكراهيتنا لهم ولأيام السجن الطويلة، وعن الظلم الذي نعاني منه على أيدي هؤلاء الحراس الملاعين، هنا ابتسم شميدث وقال لهم: هنا يكمن حل اللغز، فأنا حينما أقوم بمراسلة زوجتي كل أسبوع، أطمإنها على حالي، وأذكر في السطور الأخيرة من رسالتي محاسن حراس السجن ومعاملتهم اللطيفة ، حتى أنني ألجأ في بعض الأحيان إلى ذكر الأسماء الشخصية لبعضهم وأمدحهم.
تعجب السجناء من كلام شميدث، وقال أحدهم بنبرة يملأها الغضب والتعجب في الآن ذاته، وما دخل كل هذا بالامتيازات والمعاملة التي تحصل عليها، رغم معرفتك بمدى قساوة الحراس وظلمهم.
أجاب شميدث: ببساطة لأن جميع رسائلنا لا تخرج من السجن إلا بعد مطالعتها من قبلهم، لذا فهم يعرفون كل كبيرة وصغيرة عما يختلج صدوركم من حقد وضغينة تجاههم، فمن الأحسن أن تبادروا إلى تغيير طريقة كتابة رسائلكم، وشاهدوا النتيجة فيما بعد.
فهم الجميع المغزى، وفكروا مليا في تغيير نمط رسائلهم القديمة.
وبالفعل في الأسبوع الموالي تفاجأ السجناء بتغير سلوك الحراس نحوهم، حيث أصبح الوضع أكثر سوء مما كان عليه وأصبحت المعاملة أكثر قسوة، والمفاجأة الأكبر أن شميدث نال نصيبا وافرا من الضرب وأذيق ويلات التعذيب والقمع ولم يعد مميزا كالسابق، وفقد جميع امتيازاته، هذا التغيير الحاصل دفعه إلى السؤال عن من أفشى للحراس بسره الذي لطالما أخفاه، بيد أنه بذكائه الفطري أدرك خطأهم وسألهم مجتمعين: ماذا كتبتم في رسائلكم الأسبوعية لأسركم؟
كانت إجابتهم مفاجأة له ومفجعة في نفس الوقت، حيث رددوا جميعا:
كتبنا بعد أن طمأناهم على أحوالنا أنك علمتنا طريقة جديدة لكي نخدع حراس السجن الأشرار، ونكسب ثقتهم ورضاهم، ونجعلهم يحسنون معاملتنا، وذلك بمدحهم كذبا في الرسائل الأسبوعية، فما كان من شميدث إلا أن لطم وجهه حسرة وندما على ما أخبرهم به.
هذه الحكاية ليس الغرض منها الترفيه، أو سردها فقط من أجل السرد، فمضمونها أن نحاول التفكير بإيجابية وإيجاد حلول خلاقة لمشاكلنا، وأن نفكر بطرق جديدة غير تقليدية، فلكل مشكلة حل، لكن مع مراعاة أن ما يصلح معي قد لا ينفع غيري، أو قد تنصح غيرك بما يضرك، وقد قيل أن حسن النية وطيبة القلب في غير محلها، مثل شجرة مثمرة وسط مقبرة.
أرجو أن تنال القصة إعجابكم
الاستماع للقصة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق